مدينة غزة، تلك المدينة الساحلية العريقة، تعد رمزًا للصمود والإبداع، وهي موطن لصناعات تقليدية بارزة. من بين هذه الصناعات المميزة يأتي الشاش الطبي، الذي ارتبطت تسميته الإنجليزية "Gauze" باسم المدينة نفسها. كلمة "Gauze"، التي تشير إلى القماش الرقيق المستخدم في الضمادات الطبية، تعود أصولها إلى مدينة غزة الفلسطينية. وتعد هذه الصناعة من الإرث الصناعي والثقافي الذي يميز غزة، إذ كان الشاش الطبي يُستخدم منذ قرون في علاج الجروح والعمليات الجراحية، وهو ما أكسبه شهرة عالمية.
تاريخ صناعة الشاش الطبي في غزة
تعتبر غزة منذ القدم مركزًا لصناعة المنسوجات عالية الجودة، بما في ذلك الشاش الطبي. هذه المدينة الفلسطينية اشتهرت بمهارة حرفييها في نسج الأقمشة الرقيقة التي تتميز بالمتانة والتهوية الجيدة. استخدم سكان غزة القدماء تقنيات متطورة لنسج خيوط القطن أو الحرير لإنتاج نسيج مسامي يمكن استخدامه في الضمادات الطبية.
ارتبطت هذه الصناعة بصحة المجتمع، إذ كان الشاش الطبي جزءًا أساسيًا في توفير الرعاية الصحية، وأصبح يُعرف بجودته العالية التي سمحت له بالانتشار خارج حدود المدينة إلى أسواق العالم. كانت صادرات الشاش من غزة تلقى إقبالًا كبيرًا، مما رسخ اسم المدينة في هذا المجال عبر العصور.
مواصفات الشاش الطبي واستخداماته
يتميز الشاش الطبي بكونه قماشًا رقيقًا ولكنه قوي، يتسم بوجود ثقوب صغيرة تتيح مرور الهواء وامتصاص السوائل، مما يجعله ملائمًا للاستخدام على الجروح والجلد الحساس. يتم نسج هذا القماش بطريقة فريدة تُعرف باسم "لينو"، والتي تضفي على النسيج متانة عالية دون المساس بمساميته، مما يجعله مثاليًا للاستخدام في المجال الطبي.
لكن استخدام الشاش الطبي لا يقتصر على الضمادات فقط؛ بل يتعدى إلى مجالات أخرى. يُستخدم نسيج "لينو" في صناعة الناموسيات، التي كانت تحمي من الحشرات في المنازل والمستشفيات، وكذلك في المناخل التي كانت تُستخدم لنخل الدقيق في الطواحين. قدرة هذا النسيج على الغسل وإعادة الاستخدام جعلته مادة اقتصادية ومتعددة الاستعمالات.
ارتباط صناعة الشاش بالتراث الفلسطيني
تعتبر صناعة النسيج، بما في ذلك الشاش الطبي، جزءًا أساسيًا من التراث الفلسطيني. وعلى مر العصور، تميز الحرفيون الفلسطينيون في هذا المجال، وغزة كانت ولا تزال واحدة من المراكز الرئيسية لهذه الصناعة. ورغم التحديات الاقتصادية والسياسية التي واجهتها غزة على مر العصور، استمرت المدينة في إنتاج الشاش الطبي وتصديره إلى مختلف أنحاء العالم.
حتى يومنا هذا، ما زالت ورش النسيج التقليدية تعمل في غزة، وتحافظ على هذا الإرث الغني. الحرفيون الذين توارثوا هذه المهنة عن أجدادهم يسعون للحفاظ على هذه الحرفة العريقة ونقلها إلى الأجيال القادمة. ولعل هذا الارتباط الوثيق بين الحرفة والتراث يجعل من صناعة الشاش الطبي أكثر من مجرد نشاط اقتصادي؛ بل هو رمز للصمود والإبداع الفلسطيني.
الشاش الطبي: من غزة إلى العالم
لم تكن صناعة الشاش الطبي في غزة مجرد حرفة محلية، بل تحولت إلى صناعة ذات شهرة عالمية. منذ القدم، كانت غزة تُصدّر الشاش الطبي إلى مختلف دول العالم، حيث كان يُعرف بجودته العالية ومهارة صانعيه. وقد ساهم انتشار الشاش الطبي في تعزيز مكانة غزة كمدينة عريقة في صناعة الأقمشة الطبية. ومع مرور الوقت، أصبح مصطلح "Gauze" مرادفًا للشاش الطبي في مختلف اللغات، وهو ما يؤكد العمق التاريخي لهذه الصناعة في المدينة.
ورغم التقدم التكنولوجي الذي شهده العالم في صناعة الأنسجة الطبية، لا يزال الشاش الطبي يحمل اسمه الإنجليزي "Gauze" كتذكير بأصله وتاريخه العريق في غزة. هذا التراث التاريخي يستمر في التأثير على صناعة الشاش الطبي حتى يومنا هذا، ما يجعل غزة ليست فقط رمزًا للصمود السياسي، بل أيضًا للابتكار الصناعي.
الخاتمة: إرث حي يحمل صمود غزة
يُعتبر تاريخ صناعة الشاش الطبي في غزة جزءًا من إرث المدينة العريق، الذي يروي قصة شعب صامد استطاع تحويل مهاراته الحرفية إلى صناعات عالمية. فما بدأ كحرفة محلية لتحسين حياة الناس في غزة، تحوّل إلى صناعة عالمية تحمل اسم المدينة وتاريخها في كل مكان يُستخدم فيه الشاش الطبي.
وبينما يظل العالم يستخدم مصطلح "Gauze" للإشارة إلى الشاش الطبي، يجب أن نتذكر دائماً أصل هذا المصطلح وجذوره العميقة في غزة. إنها قصة نجاح تروي عن مدينة صمدت على مر العصور وما زالت تواصل تقديم إسهاماتها للعالم، سواء في مجال الصناعات التقليدية أو في مقاومة التحديات. فكما تداوي غزة جروح العالم بشاشها الطبي، نتمنى أن يأتي يومٌ قريبٌ لنداوي فيه جراحها ونشهد شفاءها وعودتها إلى سابق مجدها.
المصدر: مجلة الطب